السبت، 7 أبريل 2012

نغني مراثينا !


| من الواقع
نُغَنِّي مَرَاثِينَا !
2/4/1433هـ // الجمعة 5:43A.M


DR.ALAA
[اختر التاريخ]




تبرد أطرافي ويقشعر بدني وأشرب كوبا ثالثا من العصير في انتظار دوري لأقدم تجربة أدائي "الغنائية"..
أخرج كتابا من جيبي وأوهم نفسي أنني أقرأ ويأخذني عقلي إلى توقعات وانطباعات عما ستكون عليه تجربتي..
لا أدري كيف غفوت على كرسي قاس كهذا لكنني أفقت فزعا عندما سمعت أحدهم يهتف "الرقم 51 حسن محمد عثمان" ونهضت بسرعة إلى المسرح راجيا التوفيق..
جرت الأمور بسرعة إذ لم يسألني الحكام عن أي شيء من معلوماتي الشخصية ما درجتي العلمية مثلا أو عمري بل اكتفوا فقط باسمي واسم مدينتي .. حينئذ سجل عقلي الباطن أولى الملاحظات
أجريت التجربة بأغنية فخر راقت لي وهي مهداة أصلا لرموز قبيلتنا أولئك الرجال الأشداء المخلصين المرابطين إلى آخر ما تناولته الأغنية عن صفاتهم وبطولتهم النادرة .. هنا بدأ عقلي الباطن بتسجيل ملاحظة ثانية
خرجت من المسرح موقن تماما بأنني سوف أُعتمد من قبل اللجنة لحسن صوتي وتمكني من أداء المعنى كاملا دون الإخلال بسلم الأغنية الصعب وتملكني إحساس بأن نجاحي سيظهر على الشاشات قريبا.. وهذه ثالث ملاحظات عقلي الباطن..
توقي الشديد إلى الشهرة جعلني أنسى أن أتساءل عن سبب تسجيل عقلي الباطن ملاحظات كهذه ولو توقفت حينها لما كانت سنين من عمري ضيعت في لهو كهذا..
المهم أنني قبلت وتدرجت كمغن شاب لامع أثار ظهوره من مدينة مغمورة انتباه الجميع كما أن لصوته فخامة تناسب ما يؤديه من أغاني الفخر والمدح لقبيلته التي ما فتئ يعدد محاسنها ومشاهير أبطالها فضلا عن أن مظهره المحاكي لما كان عليه أجداده قرب الصورة إلى متابعيه النهمين..
وهاهو عقلي الباطن الذي حيرني يسجل ملاحظات أرهقتني وأؤثر السكوت عنه حتى أتفرغ ليلة وأطلع على سبب تسجيله الملاحظات.. فقد أصبح اليوم اسمي على كل لسان في بلادي المحتاجة لمن يغني لها كي تهدأ..
عدت يوما من استوديو التسجيل مارا بجامعتي التي تركتها في السنة الثالثة لأدخل عالم الغناء، وأخذت عهدا على نفسي أن أستمع الليلة لعقلي الباطن الذي أزعجني بملاحظاته منذ أن دخلت عالمي هذا وحتى اليوم..
دخلت شقتي وتناولت شطيرة سريعة وملأت حوض الحمام بمياه دافئة كي أسترخي وأستمع لدفاتر الملاحظات تلك..
بادر عقلي بالحديث..
: السلام عليكم حسن محمد عثمان
: وعليك السلام يا عقلي المزعج
: أردت الحديث إليك بصفتي مخلصك الذي اخترت الاستماع إليه أخيرا
: ههههه بصفتك من؟ أعد ما قلت
: الأمر ليس هازلا أتحدث إليك بصفتي مخلصك الوحيد
رفعت حاجبي سخرية وضحكت سرا.. فقال
: أنت لا تعلم من أنا فقد افترقنا منذ زمن طويل
: ماذا تقول؟!
: هه أنسيت يا حسن؟ افترقنا يوم أن قدمت لتجربة الأداء الأولى تلك
: عندها بدأت بكتابة ملاحظاتك الساذجة والتي أزعجتني
: لو استمعت يومها إليّ لما احتجنا لمثل هذا الحوار
: ادخل في صلب الموضوع يا عقلي ولا تزعجني أكثر
: حسنا أنصت باهتمام ولا تقاطعني.. أريد إيقاظك يا حسن
: توقظني مم؟ من ذروة نجاحي مثلا؟!
: تماما يا حسن !
: ماذا تقول؟!
: أقول ما سمعت رفقت بك جدا أيها المهندس الفذ الذي ترك الجامعة واشترى سنوات تعليمه بثمن بخس
: أتفق معك في أنني أردت منذ صغري أن أصير مهندسا لكنني الآن أغير طموحي ماذا أفعل إن حباني الله صوتا جميلا غير أن أغني به؟!
: تغني !
: وأنا الآن أفعل فما الذي تحاول إيصالي إليه؟؟!
: ههههه أول مرة أعلم أن ما تفعله كان غناء !! خلت مراهقتك لم تنتهي فجئت أنقذك
: ماذا تقصد بقولك هذا بدأت تزعجني قل ما عندك فليس لدي وقت كاف لأسمعك
احتدت لهجته وانفعل..
: أسمعت ما تغني؟ أمجاد دثرت وبطولات ليس لها وجود وحياة ملأى بالشجاعة لم تعكس شيئا على أي جيل حالي
: ألا يحق لي الفخر بمآثر أجدادي؟
: أتغني مراثيك يا ولد؟!!
: لا تقحم نفسك فيما أغني فهذا اختياري وحدي أخبرني فقط ما هدف ملاحظاتك تلك على أي خطوة أقوم بها؟
: أولى الملاحظات أيها النجم المشهور كانت لجنة الحكام.. انتظر قليلا لأحفز ذاكرتك كي ترجع بك إلى ذلك اليوم
: عادت بي الذاكرة ماذا هنالك؟؟
: لم يسأل أحد منهم عن درجتك العلمية ولا مؤهلاتك
: وماذا في ذلك؟
: في ذلك الشيء الكثير أهو نجاح أن يتغافل الناس عن علم الشخص ومنطقه ويكتفون فقط بصوته وحسن ترنيمه وكأن الدنيا خالية تماما من أي شيء عدا السلالم الموسيقية؟!!!
: الملاحظة الثانية سيد عقلي الباطن
: الثانية كانت الآلم بين الملاحظات يا حسن ألم تلاحظ أنك لم تفعل شيئا لأجدادك من الأبطال والشجعان الذين دحضوا الظلم سوى تعداد مآثرهم بلحن أبعد ما يكون عنهم؟!
: ماذا أفعل إذا؟
: أن تخدمهم فعلا ليس قولا.. بغنائك لبطولاتهم غنيت مراثيك ومراثي أجدادك الذين ما لبث نجاحهم إلا أن اختفى مع اختفائهم عن وجه الأرض أي نجاح هذا الذي تتحدث عنك وأنت لا تفعل شيئا سوى أن تغني كلمات معقدة لمن لا يفهمها أتظن أن أقرانك يفهمون ما ترمي إليه هذه الكلمات؟؟ ليسوا أهلا لسماعها ولا أنت أهل لغنائها.. ليس الهدف ألا تغني وإنما الهدف أن تغني بعد أن تنتهي من تحقيق حلم يكفل لهذه الكلمات أن تبقى صادقة قولا وفعلا حتى هذه اللحظة وليس أن تغني أن آباءك هم المجد والرفعة وأنت البطالة والنفاق غنيت ما ترثي به أمتك فاصحو يا حسن وعد إلى جامعتك وتعلم.. أنشئ لأجدادك ما يستحقون إزاء ما قدموا ثم غن أطلالهم إن أردت فحينها فقط تكون غنيت صدقا لا زورا ولم ترتد أقنعة أجدادك التي ما تلبث أن تسقط مرارا لتتبين ذاتك الحقيقية العاطلة .. !
لاحظ أنني نمت على وقع حديثه الهادئ والمياه الدافئة التي جعلتني أسترخي حتى غشاني النعاس.. فصرخ في أذني..
: قم يا حمار النيل الذي غنيت له.. والقبيلة التي افتخرت بها.. قم وارجع لغنائك الفارغ كمثل أولئك الحمير ممن دعموا فنك المنافق..
فأجبته بسؤال ناعس..
: ألا يوجد أي ملاحظات أخرى؟؟!
: جيد أنني أمرت ذاكرتك بحفظ الملاحظة الأخيرة التي لم تسمعها.. ومن ثم أن تسمعك إياها مسجلة بصوتي حالما تشعر بالحرقة من الوضع المتردي الذي ستؤول إليه.. والآن آمل أن تنال عقابا قاسيا يا حسن.. عقابا بقدر الألم الذي جعلني الآن أعد مشنقتي لأنتحر.. وداعا أيتها الدنيا فما أنا إلا عقل باطن لحمار متمثل على هيئة بشر..!
***
والتفتُّ إلى حفيدي لأجده دامع العينين مغطيا وجهه فخلته تأثر بقصتي التي رويتها له بأسى شديد بعد أن اشتريت سنوات تعليمي بثمن بخس وفن منافق لم يعرف الصدق.. !
أبعدت يديه عن وجهه فوجدت ما يستحق أن أشنق نفسي لأجله.. وجدت الفتى يقهقه حتى أن عينيه تدمعان بغزارة من شدة الضحك.. !!!
حينها همست.. في أذن حفيدي "نجم الغد"..
: كلانا نغني مراثينا يا ولد.. والحمار لا ينجب إلا حميرا
فازداد ضحكه وأخرجت الذاكرة ما وعدت به عقلي الباطن المرحوم.. ونقل جثماني إلى المقابر إثر إصابتي بانهيار عصبي.. !