الأحد، 4 ديسمبر 2011

سعادة المدير!
استيقظت متأخرا بخمسة عشر دقيقة عن موعد استيقاظي ذلك اليوم.. جذبت سماعة الهاتف..
-ألو (سعيد) لم لم توقظني؟
-آسف سيدي..لقد نمت متأخرا ليلة البارحة..
-آخر مرة يا (سعيد) أيقظني في مواعيدي دائما.. أخبر (ريما) بألا تعد القهوة هذا اليوم.. سأتناولها في المكتب..
وقفزت من سريري وذهبت لأجهز نفسي سريعا للذهاب إلى العمل.. خرجت من غرفتي مرتديا بذلتي الرسمية.. وتوجهت مسرعا نحو الشركة..
أوصلني السائق إلى الشركة فخرجت راكضا من السيارة وقرأت اللوحة على عجل (مجموعة شركات يزن منصور للاستيراد والتصدير) ثم توجهت نحو المصعد، التقطت أنفاسي وفتحت باب مكتبي وألقيت بجسدي على كرسيّ الدوار.. وهاهو (عم حامد) يأتيني بقهوتي الصباحية..
-شكرا (عم حامد)
-العفو يا بني .. متأخر هذا اليوم؟
-نعم..للأسف
وبدأ يومي عند الثامنة ودقيقتين.. أوقع أوراقي وأخرج الملفات وأجري المكالمات وأنظم الاجتماعات وهذا هو روتيني الدائم منذ تسلمي مهام الشركة بعد وفاة والدي (منصور القادري) وزير التجارة السابق..
أخرج من مكتبي عند العاشرة وعشر دقائق لألقي نظرة على الموظفين.. تجولت في المكاتب حتى وصلت إلى مكتب مدير الموظفين.. طرقت الباب ودخلت.. رأيتها تجلس على الكرسي موجهة ظهرها إليّ ويبدو أنها لم تسمعني..
-آنسة (سلمى).. آنسة (سلمى)..
التفتت وبيدها ورقة مطوية على شكل قارب وعندما رأتني ارتبكت ونزعت السماعات من أذنيها..
-آسفة سيد (يزن) لم أشعر بدخولك..
لا أدري لما سألتها..
-آنسة (سلمى) ما الذي بين يديك؟
-عفوا سيد (يزن) لم أقصد أن أنشغل عن........
-لالا لم أقصد معاتبتك.. أسأل فعلا عما تحملين..
-ماذا؟ سفينة ورقية.. صنعتها
-سفينة ورقية إذا.. هل تعلمين أنني لا أستطيع صنع واحدة؟
-ليس شيئا مهما أن تتعلم كيفية......
-هلا علمتني؟
نظرت إلي باستغراب..
-بالطبع
أخرجت ورقة من درجها وبدأت تعلمني كيف أصنع سفينة ورقية.. كنت فعلا أريد أن أجيد صنع شيء كـ(سفينة ورقية)!!
عدت لمكتبي عند العاشرة وخمس وثلاثين دقيقة حاملا ورقة تكاد أن تتمزق من كثرة الطي دون نتيجة فأنا فعلا لم أستطع صنع واحدة...
في اليوم التالي كنت لا أزال أفكر في تلك السفينة الورقية.. استيقظت صباحا وتناولت إفطاري وتوجهت نحو شركتي.. آمر السائق بسلوك طريق أطول هذا اليوم.. وأتأمل..
أرى أشخاصا كثر على الطريق.. أراقب سيرهم وأتخيل أحوالهم أتخيل حياتهم وأقارنها بحياتي وأبحر في عالم آخر..يقطع تفكيري السائق..
-سيد (يزن).. وصلنا
أتنهد وأخرج من السيارة وأتوجه نحو مكتبي وقبل أن أجلس يطرق سكرتيري الباب..
-عفوا سعادة المدير.. من فضلك وقع على هذا
أتأفف متضجرا..
-هات يا (أحمد)..
وأوقع على تلك الورقة..
أجلس على كرسيّ وأفتح الدرج وأخرج ملفاتي البغيضة وأبدأ بالعمل..
أجذب الهاتف..
-(أحمد).. ماذا لدي اليوم؟
-دقيقة واحدة.. اممممم حسب الجدول هناك اجتماع بعد نصف ساعة حول ما حدث الأسبوع الماضي من.......
-فهمت ماذا بعد؟
-حسنا سيزورك اليوم المبتعث من الوزارة عند التاسعة وخمس دقائق ثم ستجري اجتماعا مع موظفي قسم المستودعات عند الحادية عشرة ثم ستذهب في غداء عمل عند الواحدة وسبع دقائق مع مدير شركة (الجسر) لأعمال البناء ثم بعد ذلك......
-يكفيييي (أحمد) ما كل هذا؟
-آسف سيدي لكنه البرنامج..
-حسنا حسنا كن معي على اتصال ولا تغادر مكتبك..
-أمرك
يا إلهي غداء عمل واجتماع وزيارة للاستفسار عن أحوال الشركة واجتماع آخر... جدولي مزدحم كالعادة..
ينبهني صوت الهاتف..
-ألو سيد (يزن).. سيد (عبد الله) في الانتظار؟
-من (عبد الله) هذا؟
يخفض صوته..
-المبتعث يا سيدي
-آآآآآآ دعه يتفضل.. انتظر (أحمد) لا تزال الساعة التاسعة..
-نعم سيد (يزن) هل نسيت لقد اتصل وطلب تقديم الموعد بخمس دقائق..
-صحيح.. دعه يتفضل إذا
ويدخل ذلك المبتعث ويجري معي حوارا مطولا حول أمور الشركة لا يخرج منه إلا عند الساعة العاشرة إلا الربع.. أووووووف ما الذي حشر هذا الرجل في أمور شركتي على العموم أنني خرجت بتلك المقابلة دون أية مساءلات قانونية فأوضاع شركاتي على ما يرام..
عدت إلى منزلي ذلك اليوم.. بعد نهار طويل جدا ومزدحم جدا.. نزلت إلى حوض السباحة واسترخيت وجلست أفكر في هذه الأيام التي تمر علي دون أن أعي مرورها.. وأخرج من الحوض مسرعا.. آخذ هاتفي المحمول وأتصل بـ(عم حامد)..
-ألو
-ألو (عم حامد)؟
-نعم كيف حالك سيد (يزن)؟
-الحمد لله.. (عم حامد) هل بإمكاني رؤيتك؟
-خير إن شاء الله.. هل من مشكلة؟
-لالا أردت فقط أن أمضي معك بعض الوقت..
-أنا في مقهى الـ.................
وذهبت إليه في ذلك المقهى.. كان وجودي هناك شيئا غريبا وسط حارة شعبية بسيارة فارهة وحارس شخصي لكني أريد حقا أن أمضي بعض الوقت مع (عم حامد).. وما إن رآني حتى ناداني..
-سيد (يزن)..
أسرع نحوه وأجلس بقربه..
-مرحبا (عم حامد).. كيف حالك؟
-أهلا بني.. نورت المقهى..
ويطوووول الحديث مع (عم حامد) فيسرد لي بعضا من حكايته، ونتشارك المواقف المضحكة والمحزنة أرى في (عم حامد) مثالا للبساطة والسعادة وأقارنه مع نفسي ومع حياتي والفرق الشاسع بينهما.. لكني أضطر للذهاب بعد حوالي ساعة وأربع وخمسين دقيقة رفقا بسائقي الذي ظل منتظرا طوال هذه المدة..
أذهب لعملي في اليوم التالي منشرح الصدر لأول مرة أمر على جميع الموظفين لألقي عليهم التحية ثم أتوجه إلى مكتبي مرورا بمكتب (أحمد)..
-مرحبا (أحمد)
-مرحبا سيد (يزن).. ما شاء الله وجهك منير هذا اليوم..
-صحيح.. وبما أنه كذلك فلا تعكر صفوي أرجوووك باجتماع أو مقابلة أو شيء من هذا القبيل..
-آسف سعادة المدير لابد من أن أعكر صفوك فهذه وظيفتي!! لديك اليوم اجتماع مع وزير التجارة ضمن سلسلة.....
-أوووووف حسنا أمري لله.. أبلغني عندما يحين الموعد..
-بالطبع
وأدخل مكتبي وأغلق الباب.. أخلع بذلتي وربطة عنقي وألقيهما نحو الكرسي.. وأشمر أكمام قميصي..وأخرج جهازي المحمول وأشغل أغنية شعبية وأرقص على أنغامها!!
ينبهني صوت طرق الباب.. فأصرخ..
-تفضل..
ينظر إلي متدلي الشفاه..
-سيد (يزن) لم...لم ترد على الهاتف
- لم أسمعه آسف..
-لم أرك هكذا من قبل أيها المدير..
-ماذا؟ لا أسمعك
-أطفئ هذه الأغنية لتسمعني..
-نعم.. ماذا قلت؟
-قلت لم أرك هكذا من قبل
-لا بأس (أحمد) كسر الروتين ضروري.. هل تود الانضمام إليّ؟
-شكرا.. لدي أعمال فقط جئت لأخبرك عن جدولك هذا اليوم..
-فيما بعد (أحمد) أرجوووك..
-كما تريد
يخرج (أحمد) من المكتب وأخرج بعده حاملا بعض الأوراق..
أتجول في الشركة وألحظ جميع الموظفين يتهامسون وينظرون إلي وإلى مظهري الغريب عليهم أتوجه رأسا إلى مكتب مدير الموظفين.. أطرق الباب.. ثم أفتح فأجدها مجددا تصنع شيئا ما بأوراقها..
تنظر إليّ مستغربة مظهري..
-آنسة (سلمى) ماذا تفعلين؟
-طائرة هذه المرة..
-أحضرت معي بعض الأوراق سنتعلم صناعة قارب ثم طائرة
-سيد (يزن).. هل أنت جاد؟
-وهل يظهر عليّ غير ذلك.. لو سمحتي أطلب منك تعليمي صناعة قارب ثم طائرة..!
-حسنا كما تريد..
جلست على أرضية المكتب وكانت أول مرة أجلس فيها على الأرض منذ سنين.. بدأنا نتعلم صناعة أشكال بالورق.. يُطرق الباب.. إنه (أحمد) يحاول التقاط أنفاسه..
-سيد (يزن) ماذا تفعل هنا؟ بحثت عنك في كل مكان..
-كما ترى أتعلم كيفية صناعة سفينة وطائرة بالورق هل تنضم إلينا؟
-سيد (يزن) هل أنت جاد الوزير بانتظارك..
-ألغ حضوري..
-سيد (يزن) هل أنت على ما يرام؟
-(أحمد) ألم تسمع؟؟ أخبرهم أنني لن آتي إلى الاجتماع..
-متأكد؟ سيد (يزن) الأمر مهم الاجتماع مع سعادة......
-يا (أحمد) يا سكرتيري العزيز مع سعادة أي شخص كان.. ألغ الموعد
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. حسنا كما تريد.. لا تلمني فيما بعد
-لن ألومك انصرف قطعت علي متعتي..
وذهب (أحمد) متعجبا يقلب كفيه.. أما أنا فتعلمت أخيرا كيف أصنع قاربا وطائرة بالورق.. وخرجت من مكتب الآنسة (سلمى) منتصرا..
لا أزال أذكر عندما وقفت على الدرج وجذبت مكبر الصوت من الاستقبال وصرخت بأعلى صوتي (موظفو مجموعة شركات يزن منصور للاستيراد والتصدير.. غدا سيكون يوم عطلة) عندها وقف الجميع مندهشين جدا لكنهم عندما صدقوا الخبر صفقوا وصرخوا بأعلى أصواتهم..
عدت إلى مكتبي راكضا كالأطفال مررت بمكتب (أحمد) رأيته في حال عجيبة..
-(أحمد) ما بك؟
-ما بك أنت سعادة المدير؟
-لا شيء أخبر (شريف) أن يجهز السيارة..
-بقي على نهاية الاجتماع نصف ساعة فقط سيد (يزن) ثم إنني ألغيت حضورك
-من قال أنني سأذهب إلى الاجتماع؟ أخبر (شريف) فقط
وخرجت من الشركة حاملا معي أوراقا كثيرة وألوانا وصلصالا والكثير من اللوحات وأدوات الرسم.. أخبرت (شريف) أن يوصلني إلى المنزل كي أبدل ملابسي وفعلا ذهبت وارتديت ملابس قطنية لأول مرة بعد سنين.. وذهبت إلى البحر وهدفي أن أتعرف على ذلك الجسد المسمى بـ(يزن) وما يملك من هوايات وما يحب وما يكره.. جلست طويلا على شاطئ البحر ألعب بالرمال وأقص الأوراق وأرسم اللوحات وأكتب الخواطر..
التفت فرأيت سائقي ينتظر بعيدا.. لوحت إليه فأتى مسرعا..
-نعم سيدي
-(شريف) إن كنت لا تريد الجلوس هنا يمكنك الذهاب..
-حقا سيد (يزن)؟ حسنا.. لكن كيف ستتمكن من العودة؟
-ربك يحلها..بالمناسبة أريد منك أن تعلمني كيفية قيادة السيارة لأنني سأعتمد على نفسي في ذلك وسأنقلك إلى وظيفة أخرى..
-كما تريد سيدي.. يمكنك البدء متى أردت
-غدا.. لا غدا عطلة لشركاتنا.. بعد غد إذا..
- حسنا سيدي.. إلى اللقاء
-انتظر.. خذ هذا المبلغ ريثما نجد لك وظيفة مناسبة
-شكرا لك سعادة المدير..
-عفوا أراك بعد غد..
وعدت إلى جلوسي الطويل أرسم وألون وألعب واسترجعت أيام طفولتي وتذكرت جميع ذكرياتي ولأول مرة لم أنظر إلى ساعتي كل خمس دقائق.. كتبت خواطر نابعة من قلبي ورسمت أجمل لوحة في حياتي.. رسمت فيها (يزنين) مختلفين جدا عن بعضهما.. (يزنين) لا يعرف أي منهما الآخر.. (يزنين) في جسد واحد..
وخرجت بعد خمسة عشر سنة من العمل المتواصل بـ(يزن).. لا (سعادة المدير)!!

ولدت (أنثى) تستطيع!

: ظفي وجهك!!
: انولدتي بنت على فكرة
كانت أولى ما سمعت ومن هاتين الجملتين ألهمت وبدأت سعيي الحثيث..!
**
في كل يوم أستيقظ على وقع حلم هادئ يراودني كلما رأيت أشعة الشمس تتسل من نافذتي لتوقظني برفق.. لكن ما أيقظني ذلك اليوم طرقة قوية على باب حجرتي جعلتني أقفز من السرير..
: يا ولد يا خالد أنا.........
وقبل أن أكمل جملتي رأيت جميع أفراد أسرتي يتحلقون حول حجرتي مبتسمين
: اشبكم كدا؟
سألتهم فتعالت الصرخات والزغاريد وتطايرت البالونات وأخرج خالد ورقة قبولي في الجامعة.. كلية الهندسة- قسم هندسة البترول..
عندها جان دوري لأصرخ وأزغرد وأذهب مسرعة نحو الهاتف والحاسب المحمول وجميع وسائل الاتصال لأخبر الجميع أن حلمي (اللا أنثوي) تحقق!!
**
كنت أحاول أن أثبت لهم أنني قادرة على تحقيق حلمي جريء.. لا يهمني كم تبعد الجامعة عن بيتنا سواء كانت المسافة بالأمتار أو الكيلومترات أو حتى بالسنين الضوئية كل ما يهمني هو أنني استطعت كـ(أنثى) فعل ما أريد.. !
**
وسط سيل من الاعتراضات والتعليقات المغرضة وبعض الإعجابات زفتني أسرتي إلى الطائرة رفقة خالد وكأن تلك الشهادة كانت بمثابة عرس طويل الأمد بدأ عندما قيلت لي تلك العبارات..!
**
لماذا (أظف وجهي) وباستطاعتي فعل الكثير؟
ولماذا أستسلم لكوني (انولدت بنت) ويظل حلمي حبيس الخواطر أو الأشجان؟

ولدت (بنت) وها أنا الآن (امرأة) لها أحلامها التي تأبى إلا أن تحققها رغم نظرات المجتمع الذي لم يعد الآن بعد أن غيرت واقعي يجرؤ على أن يخاطبني بـ (ظفي وجهك) أو (انولدتي بنت على فكرة) !!