الأربعاء، 30 نوفمبر 2011

حين تتقاصر القامات


"ترررررررن.. انتهت حصة الرياضيات أخيرا على خير فلأول مرة لم يقدم لنا أ.سامي محاضرته اليومية بخصوص درجاتنا في الاختبارات.. لأنه كان مريضا.. وبدأت أكثر الحصص تشويقا في نظري فقط.. (حصة التعبير)..
يدخل أ.حجازي.. صحيح أن اسمه غريب لكنه ليس كذلك في مدرستنا.. فغرابة اسم هذا الأستاذ المخضرم لا تعادل جزءا واحدا من غرابة تصرفاته.. لكنه رغم ذلك يروق لي كثيرا..
يطل علينا بابتسامته الرزينة وبيده كيس يحمله على الجانب المكتوب باللغة العربية فهو يفخر باللغة العربية وترى ذلك جليا في تصرفاته..   جميعنا يعلم أن هذا الكيس يحمل في داخله الكتاب الذي ستروى منه قصة هذا اليوم.. 
:مرحبا طلابي.. مرحبا (علي)..
كعادته يوجه تحية للفصل كله، ثم يخصني بأخرى.. كانت هذه طريقته في تحفيز طلابه الموهوبين خاصة في المجالات الأدبية..
:ألن ينضم أي منكم لقسم التحيات الخاصة يا طلابي الأعزاء؟!
يصرخ الطلاب..
:ليس بعد يا أستاذ.. المهم.. نريد قصة يا أستاذ نرجوووك
:سنتناول درسنا اليوم.. ثم أروي لكم قصة..
رغم أننا كنا في المرحلة الثانوية وبعضنا نما على خديه وذقنه الشعر إلا أننا وعند رؤيتنا أ.حجازي نصرخ كالأطفال مطالبين بقصة فقصصه لا تفوت..
يبدأ بعرض الدرس ثم يروي لنا من قصصه التي كنت دائما أتساءل في نفسي عنها.. (ألا تنتهي؟!) لكنه يثبت لي في كل حصة أنها لا تنتهي ما دام يقرأ ويطالع الكتب..
**
أعود إلى المنزل سيرا على الأقدام فنحن في فصل الشتاء والسير جميل حين يكون الجو معتدلا كما هو اليوم..
أفتح الباب..
:مرحبا.. هل وصلتم؟
تأتي علا راكضة وتعانقني..
:علي.. احزر ماذا حدث اليوم
:بخصوص مسابقة الإبداع..
:لقد فزت بالمركز الثاني يا علي.. فزت
صرخت فرحا.. :أحسنت علا.. هكذا تكون أختي..
أخذَت حقيبتي وأدخلتها كما هي عادتها.. ذهبت لأسلم على أبي دخلت الغرفة فوجدته يقرأ الجريدة..قبلت يديه
:أبو علا وعلي.. كيف حالك؟
هكذا كان يحب أن يكنى (أبو علا وعلي) معا دون أي فصل عنصري ..!
:مرحبا حبيبي.. سعيد هذا اليوم لسعادتها
:نعم أنا أيضا..حصلت على ما تريد.. وارتحنا أخيرا..
:ارتحنا من تلك المناحات التي كانت تفعلها عندما لا ينجح إحدى مشاريعها.. بني اذهب وبدل ملابسك لتستعد للغداء..
:حسنا..
تصرخ علا..
:هيا شباب.. صار الطعام جاهزا..
ذهبنا لتناول طعام الغداء.. جميعنا سعداء هذا اليوم فقد فازت أختي التوأم بالمركز الثاني في مسابقة الإبداع العلمي للمشاريع المبتكرة.. هكذا علا علمية بحتة..
نتناول غداءنا.. يرن الهاتف.. فأتسابق وعلا للإجابة عليه وأنا من فزت هذه المرة.. أرفع حاجبي ساخرا وأرد..
:ألو.. السلام عليكم
:وعليكم السلام.. والد علا حسن؟
:لا انتظري قليلا فقط..
وأناول أبي سماعة الهاتف قائلا: سيدة تريد محادثتك بخصوص علا.. ونبتسم لبعضنا تيمنا بمجيء خبر سار..
:ألو نعم.. أنا حسن والد علا
:مرحبا سيد حسن.. أردنا إخبارك أن حفل توزيع جوائز مسابقة الإبداع العلمي سيكون يوم غد في فندق الوزارة.. نرجو منها المجيء عند الخامسة عصرا مع فرد من أفراد عائلتها..
:إن شاء الله.. عفوا سيدتي هل بإمكاننا إحضار مرافقَين؟
:نعم كحد أقصى سيدي.. نرجو التزامكم بالمواعيد..
:حسنا.. إلى اللقاء..
ينهي أبي المكالمة..
:علا صغيرتي.. غدا موعد حفل الجوائز..
: آآآآآ ياللهول علي الاستعداد.. سيكون مؤثرا جدا يا أبي.. سنظهر على شاشات التلفاز.. لابد أن نذهب جميعا..
:نعم أخبرتها بأن معك مرافقَين..
:جيد جدا..
يقبل رأسها..
:فخورون بك علا.. جدا
تبتسم وتكمل غداءها وأرى في عينيها فرحا بريئا كبراءتها..
ننهي غداءنا ويذهب أبي لأخذ قيلولته كي يذهب بعدها إلى المشفى ليكمل عملياته المقررة اليوم (فأبو علي وعلا) بكل فخر طبيب تخدير محترف، ونذهب نحن لجلي الأطباق وتنظيف المنزل كجزء من أعمالنا المنزلية اليومية..
نجلس قبيل صلاة العشاء جلسة هادئة لتناول الشاي بعد أن قمنا بأعمالنا ووظائفنا المدرسية..
:علا.. شاردة
:ها؟ نعم أفكر في يوم غد..
:سيكون يوما حافلا إن شاء الله.. ستكونين مفخرة لنا ولمدرستك..
:آمل ذلك.. انشغلت بفوزي ونسيت أن أسألك.. كيف كان يومك؟
:عاديا سوى أن حصة التعبير أضفت جوا جميلا على يومي.. درسنا عن فن كتابة القصة ثم روى.....
:ثم روى أ.حجازي قصة.. أعرف تسلسل الأحداث.. هل ستكتبون قصة؟
:تقريبا..  لا أدري عما أكتب
:حائر يا علي؟ سامحك الله حائر وبجانبك أفضل قصة لتكتبها..
:هههههههه.. واثقة بنفسك جدا!!
:لم لا أثق.. أنا شخصية متكاملة ولله الحمد يكفيك فخرا أنك أخي..
نضحك سويا وتنتهي أمسيتنا بفيلم عند الساعة الحادية عشرة..
يرن هاتفي في منتصف حصة الفيزياء.. وكلما رن هاتفي ينظر الطلاب إليّ بحقد نظرا لأني من الطلاب الذين يسمح لهم بإحضار الهواتف النقالة لظروفهم.. أستأذن من المعلم وأخرج خارج الفصل.. إنها تلك الشقية ترى ماذا تريد..
:ألو علا ألم أقل لك أن تبعثي برسالة عندما أكون في المدرسة هل من الضروري أن تسببي لي الإحراج؟
:عفوا هل أنت علي شقيق علا حسن؟
أرتبك قليلا فهذا ليس صوتها..
:نعم علي..
:هل بإمكانك المجيء لاصطحاب علا......
:ما بها؟؟
:لقد نسيت إحضار إبرة الأنسولين مما أدى إلى ارتفاع السكر..
:حسنا دقائق فقط..
وأركض مسرعا نحو المدير.. أفتح باب مكتبه..
: أ.عصام حصل لي ظرف طارئ لابد أن أستأذن بالخروج..
:نتصل أولا على والدك.........
:سيعود للاتصال بك فيما بعد.. أرجوك
:حسنا بني..
سمعتي الحسنة في المدرسة تجعل المدير يثق بي وبأني لا أكذب كما يفعل بعض الطلاب..
أخرج من مكتبه راكضا ويقابلني ابن عمي أحمد..
:خيرا علي ما بك؟
:علا نسيت إبرتها..
:سأتصل عليك لاحقا لأطمئن..
:حسنا
وأنطلق مسرعا نحو الباب أستقل سيارة أجرة وأتوجه إلى البيت لأحضر الإبرة ثم أذهب إلى مدرستها.. أدخل فتستقبلني المديرة..
: لابد أنك علي.. من هنا
ذهبت معها إلى العيادة المدرسية ورأيتها ممدة على السرير.. حقنتها بالإبرة فاستعادت وعيها وقررت أن آخذها إلى البيت لترتاح.. وفعلا ذهبنا إلى البيت رغم أن الوقت كان باكرا على نهاية الدوام.. 
وصلنا إلى البيت وساعدتها على الدخول وتبديل ملابسها ثم خلدت للنوم .. كانت هذه المرة الأولى التي تنسى فيها علا إبرتها في المنزل فهي تعلم ألا غنى لها عنها.. لكن لا بأس كان خطأ لا أكثر..
جلست أشاهد التلفاز فأتت..
:علي.. لا تخبر أبي..
:كيف حالك الآن؟ تعالي..
وأفسحت لها لتجلس بجواري..
:جيدة لكن لا تخبر أبي..
:حسنا كما تريدين..
:لو علم فسيمنعني من الذهاب اليوم إلى الحفل..
:صحيح اليوم موعد الحفل.. لن أخبره لكن عليك أن تبدي طبيعية كي لا يلحظ أي شيء
:سأحاول..
:كتبت لك الكلمة المفترض بك قولها اليوم..
:آآآ شكرا لك كثيرا.. لم لَم تعد إلى مدرستك ما يزال الوقت باكرا..
:لا أريد.. حصص هذا اليوم مملة.. هل جهزت ما سترتدين؟
:ليس بعد.. تعال واختر معي شيئا أرتديه..
:هيا إذا..
وذهبت معها لنختار شيئا ترتديه هذا اليوم صحيح أنني أحيانا أبدو كالغبي عندما تسألني أختار هذا أم هذا لكنني أحاول دائما أن أشعرها بأن ما يهمها يهمني.. نختار معا اللباس المناسب للحفل ولون الحجاب الذي يناسبه، ثم ننتقل إلى خزانتي لنختار شيئا لي، ثم ننتقل إلى خزانة أبي لنختار له بذلة تناسب مناسبة كهذه.. وبينما نحن ننسق الملابس يدخل علينا أبي..
:ما الذي جعل صغاري يأتون باكرا هذا اليوم؟
:مرحبا أبي.. كيف دخلت لم نسمع صوت الباب..
:لأنكم يا أذكياء تركتم الباب مفتوحا..
:أوووه صحيح لقد نسيته..
تقول علا ساخرة..
:ذكي يا علي..
:اصمتي
:لم تخبروني لم أتيتم باكرا؟
أجيب بسرعة..
:قررت أن آخذ علا كي نأخذ قسطا من الراحة قبل موعد الحفل..
:فكرة جيدة.. سأدخل لأنام.. جهزوا لي شيئا أرتديه..
نقول بصوت واحد..
:فعلنا يا أبي..
يبتسم أبي ويذهب لينام..
تهمس علا..
:لم يشعر بشيء صحيح؟
:جيد نجحت خطتنا إذا..
:أوووه الحمد لله
**
نعود إلى المنزل حوالي الساعة العاشرة بعد أمسية جميلة في فندق الوزارة محملين بالجوائز المالية والعينية.. فاجأتنا علا هذا اليوم كثيرا فكل من حضر الاحتفال كان يعرفها جيدا.. لاسيما أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تشارك فيها علا في هذه المسابقة التي تقام كل سنة..
ندخل إلى البناية ونستقل المصعد صعودا إلى شقتنا.. يُفتح باب المصعد فأرى حقيبتي معلقة على باب شقتنا ومعها ورقة.. أنظر إلى علا وأقول في نفسي.. لقد فُضحنا..
يجذب أبي الورقة ويقرأ بصوت مسموع..
(حضرت ولم أجدكم في المنزل.. لقد نسيت حقيبتك في المدرسة فأحضرتها.. عد للاتصال بي فور قراءتك لهذه الورقة وطمئني عليها.. أحمد)..
وينظر أبي إلينا..
:لقد نسيت حقيبتك.. طمئني عليها.. ما الذي يحدث دون علمي؟؟
علمنا أنه لا جدوى من الكذب على والدنا فقررنا إخباره بالحقيقة..
أنبنا أبي لكذبنا عليه لكنه تفهم موقفنا ووعدناه بأن لا نفعل ذلك مجددا..
عدت للاتصال بأحمد وطمأنته عليها..
فتحنا الجوائز الكثيرة وطبعا أخذت منها إحدى جوائزها.. وأمضينا ليلة جميلة لأننا لم نضطر للنوم باكرا فغدا يوم عطلة..
**
يرن هاتفي..
:ألو
:أهلا أحمد كيف حالك؟
:الحمد لله اسمع نبهنا أ.حجازي إلى أن موعد تسليم القصة غدا..
:أوووه شكرا لك لقد ذكرتني بعد أن كنت ناسيا تماما..
:أنتظر قصتك..
:أنا أيضا.. إلى اللقاء
:إلى اللقاء
أتأفف ضجرا فعلي أن أكتب قصة التعبير هذا اليوم ولا أملك أدنى رغبة في كتابتها الآن.. هداه الله ألم يكن بإمكانه إخباره بهذا سوى اليوم (الجمعة)..
:علا.. علا ألم يأت أبي بعد؟
:ليس بعد بقي ساعة على موعد وصوله..
:ماذا تعدين؟
:سنتناول اليوم على الغداء الملوخية والبطاطا المقلية وسلطة الزبادي..
:واو جميل..
:تعال وساعدني..
:أووووه يا علا دعي فرحتي تكتمل..
:تحرك يا ولد..
:حسنا
وأذهب لأساعدها في إعداد الغداء.. أقدرها كثيرا فرغم أنها لا تزال في السادسة عشرة إلا أنها تعد دائما أطعمة شهية فهي شديدة الإطلاع بكتب الطبخ..
**
أذهب إلى المدرسة هذا اليوم بعد أن أتأكد من أن علا أخذت إبرتها معها فلا طاقة لي بمشكلات كهذه..
أقف في طابور الصباح.. بجواري أحمد فهو صديقي المقرب أكثر من كونه ابن عمي..
:أحمد ما هي الحصة الأولى؟
:رياضيات..
:أوووووف أتساءل دائما لم يضعون الرياضيات في القسم الأدبي؟
:لا فائدة للقسم الأدبي دون الرياضيات هكذا تنص قوانين وزارة التربية والتعليم..تحرك علي..
نصعد إلى صفنا وتبدأ حصة أخرى مملة من حصص الرياضيات البغيضة..
حساب المثلثات والبراهين والتكامل ووووومصطلحات تضفي على يومنا المدرسي ضربا من السخافة.. أمنيتي أن يعود بي الزمن لأقتل من اخترعها..
ننزل إلى فسحة الغداء أجلس وأحمد في الحديقة ونتناول فطورنا..
:ما أخبار قصتك علي؟
:لا بأس بها لكنها دون المستوى المطلوب.. إلهامي متذبذب منذ يومين.. وأنت؟
:هههههه إلهامك متذبذب ها؟ جيد أنك كتبت قصة أنا لم أكتب واحدة سأهرب من الحصة
:لا حول ولا قوة إلا بالله ألن تكف عن هذا؟
:لن أكف.. أتريد أن يعاقبني أ.حجازي؟.. اسمع ما أخبار عم حسن؟
:بخير.. لقد كشف كذبتنا بسببك..
:بسببي أنا؟
:نعم.. علقت الحقيبة على باب الشقة.. وكتبت رسالة.. غبي فضحت أمرنا لم نقل له في البداية أن علا كان متعبة صباحا
:هههههه ما أدراني أنكم تكذبون على والدكم؟ ثم إنكم تستحقون
:حسنا سأردها لك..
:إن استطعت.. لنصعد إلى الأعلى
:انتهت الفسحة؟ لنجلس قليلا لا أريد أن أصعد ما الحصة القادمة؟
:تعبير.. أنسيت أنه يوم السبت..
:صحيح هيا إذا..
أصعد وحدي إلى الصف فأحمد قرر الاستمرار في أفكاره الإجرامية.. يدخل أ.حجازي مبتسما..
:السلام عليكم؟ كيف حالكم؟ كيف حالك (علي)؟
:الحمد لله
:آمل أن قصصكم أتت معكم هذا اليوم.. هيا طلابي من منكم كتب؟
نسلم جميعا القصص إلى الأستاذ ونبدأ درسنا.. يحدثنا أ.حجازي..
(طلابي الأعزاء يتحدث درسنا اليوم عن شخصية مهمة في حياة كل منا يكفينا أن الله تعالى ذكر هذه الشخصية في كتابه كثيرا وأوصى ببرها والإحسان إليها وسيكتب كل منكم عن هذه الشخصية خاطرة فيما لا يقل عن صفحة تسلم في حصة يوم الثلاثاء.. عرفتم عن من يتحدث درسنا عن الأم)..
وعندما قالها احمر وجهي وتسارعت نبضات قلبي ونظر جميع طلاب الفصل إلي..
وظل يكرر هذه الكلمة ويسرد عنها القصص والأشعار..
لم أحتمل ونهضت من كرسيي وتوجهت نحو الأستاذ..
:أ.حجازي هل تسمح لي بالخروج؟
:ما بك علي هذا اليوم؟
:متعب.. قليلا
:لا بأس عليك.. اذهب
:شكرا لك..
وخرجت من صفي ونزلت إلى فناء المدرسة جلست على الدرج أفكر.. ماذا سأسلم الأستاذ الحصة القادمة.. هل أقول أن أمي المطلقة هي مأساتي في هذه الدنيا.. هل أروي له قصتي معها.. أم أقول له أنها تركتنا وذهبت بعد أن قارب عمرنا التاسعة لتحقق ما تريد.. أأقول أنها كانت مثالا للأنانية.. أأقول أنها تركتنا ولم تسأل عن أحوالنا منذ ثمان سنوات لتتزوج برجل غبي أغراها بمنصبه.. هل أقول له عندما أتت لتزورنا في المدرسة وتغرينا بالألعاب ونحن أبناء العاشرة لنذهب معها وعندما رفضنا قالت.. (اذهبوا معه لنر ماذا سيفعل بكم لكن عندما تملون العيش معه إياكم أن تبحثوا عني وانسوا أن لكم أما.. إن اعتقدتم أنه سيهتم فأنتم مخطئون) عجبا هل هي أم تلك التي تقول لأبنائها انسوا أن لكم أما.. ماذا فعلت بي يا أستاذ ألا يوجد موضوع آخر في الدنيا نتحدث عنه.. سامحك الله..
لم ينبهني سوى البرد الشديد الذي اصطكت له أسناني فدخلت مسرعا.. دخلت الصف فوجدت الأستاذ يلملم أغراضه ويستعد للخروج همس في أذني..
:تعال إلى مكتبي يا علي أريد التحدث معك..
:حسنا يا أستاذ..
وذهبت معه إلى مكتبه.. أجلسني وقال..
:قرأت قصتك علي فيما تبقى من الحصة.. دون المستوى.. لماذا؟
:نعم أعلم.. ليست لدي أفكار
:اكتب عنك يا علي.. عن حياتك.. عن أي شيء..
:سأحاول يا أستاذ..
:سأعطيك الدرجة كاملة لكنني لن أقبل بهذه القصة.. مستواك أعلى من ذلك..
:حسنا..
:اذهب إلى صفك.. أنتظر قصتك..
**
مضت الأيام بسرعة وجاء موعد الحصة القادمة يوم الثلاثاء.. دخل الأستاذ وألقى التحية واستفسر عن خواطرنا.. فسلمناها كان يقرأها وينادينا واحدا واحدا ليعلق على خاطرته.. جاء دوري.. ناداني فأتيت مسرعا..
:علي ما هذا العنوان البدائي؟ (أمي وأبي)؟
:اقرأ أستاذي وستعرف..
وعندما انتهى من قراءتها صفق معجبا.. وقام ليقرأها أمام جميع طلاب الفصل.. بدأ بالعنوان فنظر الطلاب إلى بعضهم فقال..
:انتظروا طلابي وستعرفون..
ابتسمت وبدأ بالقراءة.. حتى وصل إلى آخر عبارة كتبتها.. (أعرفت الآن لم كتبت هذا العنوان.. لأن أمي وأبي.. شخص واحد)
فصفق الطلاب جميعا وبدأت عبارات الإعجاب تنهال علي كنت حينها فرحا جدا بأن عباراتي نالت إعجاب معلمي وأصدقائي.. لكن أ.حجازي عكر صفوي..
:علي ألم تكتب القصة؟
:ليس بعد أستاذي
:لا أزال أنتظر قصتك
:إن شاء الله..
**
استيقظت هذا الصباح لا رغبة لي في الذهاب إلى العمل يأتي حسن راكضا.. يقفز على سريري ويقبل يديّ..
:صباح الخير أبي..
:صباح الخير صغيري.. لم تذهب إلى الروضة؟
:اليوم عطلة يا أبي..
:صحيح.. نسيت ذلك..
نهضت من سريري وارتديت ملابسي وذهبت إليها..
طرقت الباب.. ففتحت
:علي.. اشتقت إليك..
وعانقتني بلهفة..
:تفضل..
:كيف حال عروسنا؟
:بخير..
:أين زوجك؟
:أحمد؟ ذهب ليزور والدته..
:مستعدة؟
:نعم هيا بنا..
اصطحبت علا وذهبنا إلى أبي.. طرقنا الباب ففتحت زوجته.. رحبت بنا وأدخلتنا
دخلنا على أبي..
:علي وعلا؟ ما هذا النور.. مرحبا بكما
أفسح لنا لنجلس بجواره فجلست على يمينه وجلست علا على يساره.. تسامرنا طويلا عن كل ذكرياتنا.. بدءا باليوم الذي طُلقت فيه أمي وحتى اليوم الذي زففنا فيه أبانا عريسا مرورا باليوم الذي تزوجت فيه واليوم الذي رزقت فيه بحسن واليوم الذي تزوجت في علا ويوم تخرجنا والكثير الكثير من اللحظات السعيدة..  وظل حسن أبا وأما لنا حتى هذه اللحظة..
لا تزال صورة أمي عالقة في ذهني وأتمنى أن أراها فقط لأقول لها.. لم نندم ولن نندم مطلقا.. لأروي لها كيف مرت هذه السنوات علينا.. كيف كان أبي ينهك نفسه ليوفر لنا كل ما نحتاجه.. كيف كان يلغي عملياته ليستذكر معنا الدروس.. كيف كان يقتني كتب الطبخ ليعد لنا الطعام.. وكيف كان يرتب وينظف المنزل.. كيف اضطر لترك عمله والاعتماد على مدخراته ليتفرغ لنا.. كيف كان يسهر الليالي الطوال يصلي ويدعو بدعوة واحدة "اللهم احفظ أبنائي".. كان معنا دوما في كل لحظاتنا.. لم نشعر ولو للحظة واحدة أنه غائب عنا.. فعل كل ما كان يفترض بك أن تفعليه وأكثر.. كان من الممكن أن يتركنا مع خادمة أو جليسة أطفال أو زوجة ربما لكنه لم يشأ أن يشعرنا بفقدان الأمومة.. لم يشأ أن يتزوج حتى يرانا نكون أنفسنا ونقف على أرجلنا.. مواقف كثيرة كنت أراه فيها يختلي بنفسه ويقسم أعماله ما بين العمل والمنزل.. ربانا بحب حتى بلغنا أشدنا.. لم نندم ولم نبحث عنك سيدة سامية.. لأنه اهتم بنا كما لو اجتمع حب وحنان جميع أمهات الدنيا.. ربانا تربية بطل.. 
أبي ستظل دائما سر كل نجاح لنا.. ستظل سر الود الذي يجمعنا.. ستظل سر الحب والوفاء والتضحية الذي ربيتنا عليه.. وستظل تلك القامة التي تعلو في أنفسنا حين تتقاصر كل القامات.. !"
:ما رأيك أ. حجازي؟
:رائعة رغم أنها جاءت بعد سنين طويلة..
:صحيح.. ألم تقل لي يوما (قد يغيب إلهامك طويلا لكنه لا ينتهي)؟
:هههههه مازلت تذكر ؟
:بالتأكيد..
:اسمح لي أن أحتفظ بها..
:بالطبع.. كنت سببا في كتابتها..
:يسعدني ذلك.. دمت لأبيك علي.. شكرا لقلمك..

هل لي بكسرة خبز؟؟!

أقترب من البيت.. فأحث خطاي للوصول لكني أتباطأ فور أن تتوسط صورته ذهني.. أحدث نفسي..
صالح هل أنت حقا رجل؟
أتوقف برهة وأنظر خلفي.. لا شيء يدفعني إلى التقدم فتقدمي لن يؤثر..
لأني لست رجل.. ! أستأنف سيري.. وأحاول إبعاد الأفكار عن رأسي لكنها تأبى إلا أن تثبت لي قصور رجولتي..
وكلما اقتربت يعلو صراخه.. أحدث نفسي..
 يارب اجعله توهما فقط..
لكنها تعود لقتلي مجددا.. ليس توهما يا صالح بل هو فعلا صراخه.. !
أصل إلى البيت فتعلو الصرخات داخلي تضامنا مع صرخاته.. لتثبت لي عجزي أن أكون رجلا..!
أنظر إليها وتنظر إلي لا شيء نقوله فهي تعلم كيف حالي وأين كنت..
ننظر إليه.. وكأن عينينا على علم بنقطة ضعفنا.. صرخاته..!
لم تحتمل الأم صرخات الرضيع ولم أحتملها.. فأجهشنا ببكاء صامت..
وكأن صغيرنا علّمنا أن تبكي دواخلنا فقط لأن دموعنا جفت.. عجزت عن الجريان.. واستسلمت للجوع..
أدور في أزقة (مقديشو) حافيا باحثا عن رجولتي.. رأيت أحدهم يمشي على استحياء بين يديه خبزة..
ركضت إليه..
هل لي بكسرة؟
وضع على يدي كسيرة يابسة..
فاجتُثت رجولتي مني.. بعد أن مددت يدي (سائلا) ..!
تواسيني نفسي.. سؤالك سيجدي نفعا عندما يكف الرضيع عن البكاء..
أسرع إلى كوخي.. ليته كان كوخا.. ليس سوى شيء دون مسمى.. شيء لم يقتنع البشر بأن يبحثوا في قواميسهم عن مسمى له..
أدخل فيصمت الصغير.. ربما أحس بقدوم الغوث..
أحشر الكسيرة في فمه فتنظر إليّ بعينين جافتين..
أسلم روحه صالح..
وترقد إلى جانبه وتغفو في بضع أجزاء من الثانية.. لتحدثني نفسي..
أسلمت روحها صالح.. واجتُثت رجولتك..! 

~| افتتاحية


أولى الخطوات "مختلفة"
أفكار متداخلة..
مفردات بريئة..
تراكيب تصارع للبقاء..
وحروف تمحى ثم تعود لتكتب ثانية..
ومهارات تصقل..
وبعد الكثير..
تخرج مرهقة إلى الصفحات..
تستعيد ألقها بعد برهة..
فتراها أسطرا تتلألأ..
لأنها..
تتسابق لتنال شرف البداية..
..
كذا كانت خطواتي.. مختلفة !
وحق لها
Esraa rifaat Alqorashi |إِسْرَاء رِفْعَت القُرَشي