الخميس، 1 ديسمبر 2011

الكوفلة


الكوفلة:(مفردة عامية تعني الغطاء الذي يلف به الرضيع)
تدخل المكتب ضجرة من مستوى طالباتها.. تتنهد بعمق..
: بنات أولى ثانوي فقعوا مرارتي!
وتأتي عبارات المعلمات شاكية وباكية هي الأخرى من طالبات أولى ثانوي فتدرك أنها (فكت هرجة)..!
تخوض المعلمات في نقاش مطول عن طالبات الصف الأول الثانوي.. تنسل بهدوووء من (الهرجة) وتخرج أدوات الخياطة لتخيط يدي دميتها بعد تعرضها للتعذيب على يد ابن أختها.. !
--*--
تعود إلى منزلها بعد يوم مرهق وأصوات الطالبات لا تزال عالقة في ذهنها.. تأخذ حماما دافئا وتتوجه نحو غرفتها تدخل دميتها في مهدها وتستسلم للنوم.. وما إن تستغرق في النوم حتى يرن هاتفها.. تستيقظ فزعة..
: ألو
: بتووووول فكي الباب صارلي ساعة أدق الجرس
: أووووووه معليش سبت المفتاح معلق.. يلا جاية
تسرع نحو الباب وتفتحه.. يبتسم..
: الله يهديك شوية وكنت حاتجمد.. 
: معليش والله ما أخدت بالي
تحمل عنه أغراضه.. وتسرع نحو مطبخها لتعد الغداء.. تضع الصحون على الطاولة
 وتناديه..
:  يا غالب يلا الغدا
يأتي مسرعا وعلى وجهه علامات الجوع.. يبدأ بالأكل وتنظر إليه..
: غالب..
وتصمت..
: نعم..
:خلاص ولا شي..
ينظر إليها ويكمل طعامه.. ترفع بصرها إلى عينيه لتتأكد من نظراته.. تحدث نفسها..
: ما زعل..
تظل دوما حريصة جدا على مشاعره وقبل أن تخوض معه في أي حديث تراجع كلماتها وتتأكد من صياغة عباراتها.. يكتمل تدقيق النص فتخرجه إليه.. تندم على أي كلمة خرجت عن غير قصد.. تعتذر عن كل شيء.. وتشكره على أي شيء.. ففكرة أنه صاحب فضل عليها لا تبرح عقلها.. بينما لا يكاد يذكرها هو.. !
--*--
توقظه برفق بعد قيلولة قصيرة.. تقدم له الشاي..
: غالب والله آسفة.. خلص النعناع
: مو مشكلة هاتيه
وتقدمه على استحياء.. يتناول كأسه وينظر إليها..
: بتول.. أمي عازمتنا عشا.. اش رايك نروح ولا؟
وكأنه ألقى بحمل كبير على قلبها.. ترد عليه وهي تنظر إلى الدمية في مهدها..
: اذا حاب تروح......
ينظر إلى الدمية ومهدها.. وفورا يغير رأيه..
: واذا قلت ماني حاب؟
: على راحتك.. بس أخاف أمك....
: ما عليك ما راح تزعل.. اش رايك نخرج اليوم؟
: فين تحب؟
: أي مكان.. نقرر في السيارة.. روحي ألبسي أصلي المغرب وأرجعلك
: طيب..
وتذهب معه إلى مطعم قريب.. يقطع حديثهما صوت هاتفه.. يخرجه وينظر إليه وينهض من كرسيه مبتعدا عنها..
: ألو كيفك يا أمي؟
: فينكم للحين ما جيتوا؟
: نسيت أقولك.. ما حنقدر نجي
: يا ولد اشبك صرلك ربوعين ما تجي سيب اللي في يدك وتعال
: بس يا أمي ما حينفع..
: حينفع تعال بسرعة
يستدير ليجدها تستعد للذهاب..
: الخالة قالتلك تعالوا صح؟
: صح..
ويتوجه نحو المحاسب..
تهمس..
: تعال دفعت الحساب
يركبان سيارتهما ويتوجهان نحو (البيت الكبير).. وما إن يدخلا حتى يضيق صدرها.. تتجه نحو (المجلس)..
: السلام عليكم..
وتخص خالتها بقبلة على يدها..
: كيفك خالتي؟
: الحمد لله.. اشبكم ما كنتوا جايين؟
: كنت تعبانة شوية خالتي
ويجيب هو في الجانب الآخر بنفس الإجابة.. تمضي ليلتها تلك معكرة المزاج.. وهو كذلك..
--*--
تنزل من السيارة..
: مع السلامة غالب..
: مع السلامة
وتتوجه نحو المدرسة..
تدرس حصتها الأولى والثانية والثالثة.. ثم تدخل المكتب منهكة بعد وقوف طويل..
: مرحبا بنات..
: أهلين بتول..
وتجلس في مكتبها.. تسند رأسها إلى الجدار وتغمض عينيها..
تقترب منها سعاد.. تهمس في أذنها..
: بتووووول نمتي؟
تنهض فزعة..
: الله يهديك يا سعاد ليه كدا بس؟
: مين يهرج معايا أنا؟
: طيب يا ستي في غيري أصلا يعطيك وجه؟
تهم بالحديث فتدخل تهاني حاملة مولودها الجديد..
: اشلونكم بنات
تنهض المعلمات نحوها ويبدأن بالتناوب على حمله وتنظر البتول إليه وتحاول دس دمعاتها عنهم..
تستجمع شجاعتها وتقترب منه.. تستجمع شجاعتها أخرى وتقبله فتنسحب المعلمات من ذاك المشهد المأساوي بهدوووء وتبقى تضمه إلى صدرها ولا تبالي بنظراتهن.. لا ينبهها سوى صوت الجرس.. تعيده إلى أمه.. وتخرج من المكتب لتدرس حصتها الأخيرة ذلك اليوم..
تدخل الفصل فتسمع إحداهن تتحدث..
: شفتي أبلة بتول سارت حلوة بعد ما اتزوجت..
: بس يا حرام يقولوا ما تجيب عيال..
وما إن يتنبهن لوجودها حتى يصمتن..
تحاول إقناع نفسها بأنهن لم يتحدثن عنها لكنهن قلن (أبلة بتول).. تستدير نحو الباب.. تفتحه وتخرج من الفصل فتدرك الطالبات أنها سمعتهن..
تسير في الممر حاملة كتبها.. تقابلها المراقبة..
: أبلة بتول عندك حصة..
: ما أبغاها..
: أبلة بتول في شي؟
: تعبانة شوية..
: سلامتك
وتكمل سيرها.. يخالجها شعور بعدم الاستمرار.. فتقرر في لحظة عدم الاستمرار وتبني على ذلك..
تعود إلى مكتبها.. تنظر إليها سعاد..
: بتول..  بالله مين اللي رضي ياخد حصتك.. ع أساس متقدمة في المناهج.. وبعدين لين ..............
: محد أخذ حصتي.. تعباااااااااااااانة
تقترب منها وتضع يدها على جبينها..
: اشبك بتول؟
: ما أدري
وتخرج جوالها من حقيبتها.. وتتصل به..
لا يجيب.. تعاود الاتصال به لكنه لا يجيب وعندما تدرك ألا فائدة تضع رأسها على الطاولة..
وتعود بها الذاكرة لليوم الذي تزوجا فيه.. لا تزال تذكر أدق التفاصيل منذ بداية حياتها الزوجية والتي لم تتعد أشهر حتى ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه أنها (عقيم).. وبعد ذلك لم يعد أي حدث يبقى في ذاكرتها.. !
يرن هاتفها..
: ألو
: بتول اشبك داقة علي أربعة مرات؟
: تعال خدني.. تعبانة
: دقايق بس..
يترك ما في يده ويتوجه نحوها فكل شيء يسوء في عينيه عندما تكون البتول (تعبانة)..
يتصل بها..
: بتول اخرجي أنا تحت..
تودع صديقاتها وتتوجه نحو الحضانة.. تفتح الباب فترى الكثير من الأسرة تتوجه نحو رضيع تهاني.. تحتضنه وتقبله.. وتخرج..
تستوقفها المديرة..
: أبلة بتول خارجة بدري عسى ما شر
: شوية تعب..
: سلامتك
: الله يسلمك.. مع السلامة
وتخرج من المدرسة.. يتجه نحوها ويمسك بيديها..
: بتول اشبك؟
وحين سؤاله تأذن البتول لدمعاتها بالخروج.. فيدرك أن أمرا ما ضايقها..
يساعدها للدخول إلى السيارة.. ويكرر السؤال..
: بتول اشبك؟
تصمت طويلا فيصمت ويقرر الحديث معها في وقت لاحق..
ينتصفان الطريق.. يهم بالحديث فتسبقه..
: غالب.. طلقني!
يفلت المقود..
: بتول اش صاير؟
: ما في شي.. طلقني وبس
: انت فعلا تعبانة
ويحرك سيارته متجاهلا  كل ما قالته فهو يعلم أنها تعيش حالة من اللاوعي..
: أنا اش قلتلك غالب.. طلقني
: في البيت يا بتول.. بس نوصل البيت حأطلقك..!
تستغرب رده لكنها تصمت..
يصلان إلى منزلهما يفتح الباب وينطلق مسرعا نحو غرفتهما.. يدخل ويأخذ الدمية في المهد فتدخل الغرفة..
: سيبها
: آسف ما أقدر
: قلتلك سيبها يا غالب.. سيبها
وتجهش بالبكاء..
: بتول انتي ماتحسي؟ كم لك حاطة القرف دا هنا وأنا ساكت؟
: انتا اللي ما تحس كلكم ما تحسوا.. انتا وأمك وأخواتك وأمي وأخواني وكلهم يبغوك تتزوج.. روح اتزوج غالب أنا ماني زعلانة..
يسقط الدمية على الأرض ويخرج من الغرفة..
تسرع نحوها تحملها وتضمها إلى صدرها..
: معليش حبيبي.. بابا شوية معصب.. لا تاخد ع خاطرك !!
وتنتحب البتول ويسترق النظر إليها مخفيا عبراته..
--*--
توقظه برفق كعادتها بعد انتهاء قيلولته.. يفتح عينيه..
: كيفك؟
: الحمد لله
تقدم له الشاي.. ويسود الصمت بينهما.. يتناول كأسه وينهض..
: بتول أنا طالع..
: الله معاك..
يرتدي ملابسه ويتوجه نحو باب شقته ويلحظ كيسا معلقا على الباب.. يحمله عل أنه قمامة لكنه يفاجأ بما فيه.. يعود إلى غرفته فيجدها ترقد على السرير وتقرأ كتابا.. يقطع خلوتها
: بتول.. العروسة
: ما عاد أبغاها.. أرميها
وتشيح بوجهها عنه..
: بس سيبلي الكوفلة
: بتول أنا بس كنت معصب لمن شفتك زعلانة.. ما كان قصدي........
: اسمع الكلام يا غالب
يقترب منها ويطبع قبلة على خدها.. فيستقبل ذلك الخد دمعات ثقلت على العينين.. يمسح دموعها ويخرج..
--*--
تخرج من (دار الأيتام) حاملة رضيعها.. تسير ببطء لئلا تتعثر وتقطع نومته..
وكذا بقيت تراقبه ببطء يكبر ويكبر أمام عينيها وعيني غالب.. في كل ليلة تسهر قربه وتغني له حتى ينام وتبقى تنظر إليه.. لا تكاد قدماه تلامسان الأرض فهو دوما بين ذراعيها.. ولا تكاد عيناهاا تفارقه.. ولا تزال رغم بلوغه الثالثة تلفه بتلك (الكوفلة).. !

هناك تعليق واحد: