الأحد، 23 ديسمبر 2012

وقد غـــــــــــــــدت تلك العادة !


وقد غدت تلك العادة!
القصة الفائزة بالمركز الأول لجائزة غادة للكتاب الشباب، 22/12/2012م
أعود وعلى تأنٍ أفتح الباب..              
وعلى عجل يدخلُ أذنيّ صوت غطيط تعفن في ذلك الفراش.. ألج المنزل بعد منتصف الليل فأراها كل يوم تتقزم.. وتتآكل ملامحها بين تجاعيد المرض.. هي ليست في عمر التجاعيد.. لكنه داء لا يطيق جيبي له دواء..
كل يوم حين عودتي أرى ذاك المشهد.. وأحسب أني إن لم أره بعينيّ يوما عند هذه الساعة، تراه الذاكرة لفرط اعتيادها عليه.. وكأنها وأنا هنا منذ الأزل بينما أنا في حقيقة الأمر لا أجاوز السادسة عشر..
على خطو هادئ أمر وأغلق خلفي الباب أواري غطيطها عن أسماع المارة مع علمي أنهم كفوا عن المرور لئلا يعييهم النظر.. والسمع!
لكنها العادةُ إغلاقُه..
أجاوزها إلى فراشي وأشعل ضوءا شحيح العطاء فوقه، لكيلا يصلها الضوء فيعييها النظر، ولو أشعلته فوقها مباشرة لما انتبهت لضوئه..
لكنها العادة..
أشرع بالتجوال بين الكتب جميعها في نظرة سريعة كيلا تختفي المعلومات يوم أقف مُطالبا بالإجابة عن ظاهرة فتفسيرها، أو معادلة وحلها صباح الغد.. وألتفت إليها.. كل ليلة منذ الأزل..
أرى طيفا أظنه لي يحاول كتم أنفاسها ودس الغطيط متحاشيا ذكر نية القتل مُعلِّلا بنية إراحتها من عناء الحياة، وما حياتها إلا شهيق شاق فزفير أشق..!
وبعد كل طيف أستعيذ بالله وأضطجع إلى جانبي الأيمن أتلو بضع آيات هن ملاذي بعد تلك النوايا.. ودعوات راجيات شفاءها أرددهن، أما الدموع فاعتادت الجريان ما إن يلامس خدي الوسادة..
أهز نفسي ببطء كأني أتوسل الأيام إعادتي إلى المهد صبيا يسليه الهز فينام لا يحمل من الدنيا هما..
أو لعلي أهز نفسي ببطء لكيلا يئن سريري شاكيا سنه وثقلا ازداد يوما تلو يوم بعدد أيام عمري، أو منذ الأزل..!
وتمتد يدي لتفتح دفة النافذة ليعبر الهواء ويعبر صوت ساعة أو منادٍ يوقظني قبيل ضوء الشمس فأدرك أنه الصبح قد طلع بعد رجاء الله أن ييسر لي من يوقظني، فيعبر صوت يوما.. وتعبر يدُ جاري يوما تهزني لأستيقظ، ويثقل نومي يوما فلا تعبر يد، ولا يعبر صوت..!
وإذ يعبر أي منهما.. أستيقظ.. وبعد الصلاة.. أهرع إلى أغراضي أرتبها.. وما الأغراض إلا قلم وبضع كتيبات منزلتهن دون الترتيب..
لكنها العادة..
وأعمد إلى فردة جوربي الوحيدة فأرتديها، ويمر مصرع أختها على ذهني.. فأتألم.. رغم أني كنت وقتها صغيرا وأبى مفتاح الضوء أن يغلق فغطيته بها كي أستطيع النوم.. ونمت يومها، واحترقت، وبقيت أختها تكافح معي يوما بعد يوم حتى اللحظة.. ولو كانت مع أختها لكافحتا جنبا لجنب..!
وأحشو فردتَيْ حذائي الضخم بشيء من قطن فلا تفلت قدميّ خارجا، ويمر بي يومَ وجدتهما على ضفة النيل.. فخِطتهما وهذبتهما وتصادقنا حتى اللحظة..!
أسير في تعدد للخطا.. تارة أسرع، وأخرى أبطئ.. وثالثة أهرول حتى أصل إلى موقف الحافلات لأتعلق بظهر حافلة تقلني إلى محطة أسير بعدها ذات المسافة لأصل إلى المدرسة..
الحاجة أم الاختراع كما يقولون، وكما أقول هي أم الكفاف وأم كل شيء.. وربما هي أم الدنيا.. وأم حينا المتربع دون خجل مذ ولدتُ لا أعرف له اسما ويطلقون عليه إلا ساكنوه.. "العشوائية"..
أضرب بكفي ناصيتي الخاطئة وأنا معلق بسلم حافلة لما مررت بصورة كبيرة لرئيسي توبيخا لنفسي كما جرت العادة أن يفعل الشعب أمام الرئيس وإن كان صورة!
فأنى لها أن تذكر الحاجةَ ما أدراها بها؟ وهي التي لم يكن خط الفقر فوقها يوما!!،
فينزلق على أثر الضربة أحد الكتب واضعا إياي بين خيارين أختار منهما القفز لأستعيده وأسير ما تبقى من الطريق على الأقدام..
وأعود أنظر إلى الصورة على الأقدام تعبرني لفحة برد فتصطك أسناني وأعزم النظر إلى كل شيء إلاها لئلا أذكر الحاجة فأضطر إلى إكمال طريقي راجلا في عقاب على ذكرها..!
تمر حافلة ثانية جانبي فأهم برفع بنطالي لألحق بها لكني أذكر جوربي الوحيد فأرفع البنطال عن القدم ذات الجورب وأبقي الأخرى مستترة.. وأفلح في التعلق بحافلة أخرى أنزل من عليها قبل المحطة فلا يطالبني صاحبها بدفع أجر مهما بلغ زهده..
وكذا أفعل منذ الأزل..
أعود، وعلى تأن أفتح الباب..
وعلى عجل أدرك أن الصوت لا يصل فهل صمت آذاني أم.........أصمت وأنا أخشى الاقتراب منها لأعلم يقينا أين الصوت.. وأضع أذني على صدرها فتسري برودته في جسدي.. لأعلم أن قد غادر الصوت تاركا إياي في بغض لكل صوت إلاه، في بغض للحاجة أبديّ..
وأخرج لأعلن في "العشوائية" وفاة أمي بُعَيد انتصاف الليل، قبيل أن أخبرها بأن سنتي الأخيرة في المدرسة انتهت وقد عدت لا يشغلني عنها شاغل..
أتجه إلى النيل وأغفو هناك..
وقد غدت تلك العادة..
**

أركض رافعا البنطال عن قدميّ كليهما.. لألحق بالحافلة وأركبها لأولى المرات فأتعرف على مقاعدها ويعلم السائق أخيرا أن لي جيبا صرت أفخر بما فيه وإن كان زهيدا.. ما دامت الحافلة تقلني كل يوم إلى حيث أعمل..
وقد غدت تلك العادة..
**

أسير وعلى تأن ألج سيارتي آمر السائق بالسير..
ولما أصل إلى حيث وجهتي أفتح باب السيارة فتلوح لي لافتة ضخمة..
"مستشفى السيدة فاطمة لعلاج أمراض القلب".. ويمر بي يوم قتلت الحاجة السيدة فاطمة فحرضتني على بغضها والعزم على الربح نهاية المطاف..
أدخل فيحييني موظف الاستقبال..
أهلا بسعادة المدير.. فأوقن أني ربحت قاهرا الحاجة..
وقد غدت تلك العادة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق